بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله رب العالمين , وصلى الله وسلم على نبينا محمد الأمين, وعلى آله الطيبين الطاهرين , وصحبه البررة الأكرمين, أما بعد: فهذه سلسلة مباركة سميتها: فاكهة المجالس وتحفة المؤانس , أعرض فيها ما انتقيته واخترته لكم من فوائد ونكت علمية , وطرائف وأخبار أديية , اقتطفتها من بطون الكتب والتواريخ والطبقات والتراجم ,وسأعلق على بعضها بما فتح الله تعالى علي من زيادة تعريفات , وتوضيح مبهمات , وتفسير مجملات , وذكر طبعات الكتب المصنفات, لتكمل الفائدة والاستفادة, وستكون تعليقاتي باللون الأزرق, مفتتحة بقولي: قلت , والله تعالى المسؤول أن يحلها في قلوبكم وأنظاركم محل القبول والرضى , وأن يعينني على إكمالها وإتمامها , وأن يبارك فيها وينميها , وينفع بها كثيرا من عباده المؤمنين, آمين / كتبه أبو يعلى البيضاوي المغربي غفر الله ولوالديه

الأحد، 25 نوفمبر 2012

122- المفاضلة بين الفقير الصابر والغني الشاكر


هل الفقير الصابر أفضل من الغني الشاكر أم العكس؟ فيه قولان للعلماء, هما روايتان عن الإمام أحمد، وذكر القاضي أبو الحسين أن أصحهما أن الفقير الصابر أفضل, وقال: اختارها أبو إسحاق بن شاقلا, والوالد السعيد, وقال الشيخ تقي الدين: والصواب في قوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13], فإن استويا في الفتوى استويا في الدرجة كذا قال
وقال الحاكم في تاريخه عبيد الله بن محمد بن نافع بن مكرم الزاهد أبو عباس العابد كان من الأبدال، توفي في المحرم سنة أربع وثمانين وثلثمائة، سمعت الأستاذ " أبو الوليد " يقول: لو أن التابعين والسلف رأوا عبيد الله الزاهد لفرحوا به
سمعت محمد بن جعفر المزكى سمعت أبا علي الثقفي يقول: عبيد الله الزاهد من المجتهدين, قال الحاكم: قلت لعبيد الله قد اختلف الناس في الفقر والغنى أيهما أفضل؟ , قال: ليس لواحد منهما فضل, إنما يتفاضل الناس بإيمانهم, ثم قال عبيد الله: كلمني أبو الوليد في فضل الغني, واحتج علي بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غني», قلت: يعارضه قوله - صلى الله عليه وسلم - «أفضل الصدقة جهد المقل», قال عبيد الله: والدليل على ما ذكرت أن الناس يتفاضلون بإيمانهم قوله - صلى الله عليه وسلم - لحارثة: «إن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك قال: عزفت نفسي عن الدنيا», جعل اختيار الفقر على الغنى حقيقة الإيمان, وهو غريب ضعيف. انتهى كلامه.
قال ابن الجوزي: وأما التفضيل بين الغني والفقير فظاهر النقل يدل على تفضيل الفقير، ولكن لا بد من تفضيل فنقول إنما يتصور الشك والخلاف في الأمرين
قال ابن هبيرة الوزير الحنبلي: ولو لم يكن في الفقر إلا أنه باب رضاء الله, ولو لم يكن في الغنى إلا أنه باب سخط الله؛ لأن الإنسان إذا رأى الفقير رضي عن الله في تقديره، وإذا رأى الغني تسخط بما هو عليه، وذلك يكفي في فضل الفقير على الغني.

المصدر : [الآداب الشرعية والمنح المرعية 3 /487] 

قلت - رحم الله والدي-:
المسألة بسطها ابن القيم في كتابه: عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين [1 /181] في صفحات, ومما قال رحمه الله: هذه مسألة كثر فيها النزاع بين الاغنياء والفقراء, واحتجت كل طائفة على الاخرى بما لم يمكنها دفعه من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار, ولذلك يظهر للمتأمل تكافؤ الطائفتين, فإن كلا منهما أدلت بحجج لا تدفع, والحق لا يعارض بعضه بعضا, بل يجب اتباع موجب الدليل أين كان, وقد أكثر الناس فى المسألة من الجانبين, وصنفوا فيها من الطرفين, وتكلم الفقهاء والفقراء والاغنياء والصوفية وأهل الحديث والتفسير, لشمول معناها وحقيقتها للناس كلهم, وحكوا عن الامام أحمد فيها روايتان, ذكرهما أبو الحسين فى كتاب التمام ,اهـ
وقال في بدائع الفوائد [3 /162]: قد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن مسائل عديدة من مسائل التفضيل, فأجاب فيها بالتفصيل الشافي, فمنها: أنه سئل عن تفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر أو العكس؟, فأجاب بما يشفي الصدور فقال: "أفضلهما أتقاهما لله تعالى فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة".اهـ
وقال في مدارج السالكين [2 /413]: وأما كلامهم في مسألة الفقير الصابر، والغني الشاكر وترجيح أحدهما على صاحبه, فعند أهل التحقيق والمعرفة: أن التفضيل لا يرجع إلى ذات الفقر والغنى. وإنما يرجع إلى الأعمال والأحوال والحقائق. فالمسألة أيضا فاسدة في نفسها. فإن التفضيل عند الله تعالى بالتقوى، وحقائق الإيمان. لا بفقر ولا غنى، كما قال تعالى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}, ولم يقل أفقركم ولا أغناكم, قال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - والفقر والغنى ابتلاء من الله لعبده. كما قال تعالى {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن - وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن}, كلا أي ليس كل من وسعت عليه وأعطيته: أكون قد أكرمته، ولا كل من ضيقت عليه وقترت: أكون قد أهنته، فالإكرام: أن يكرم الله العبد بطاعته، والإيمان به، ومحبته ومعرفته. والإهانة: أن يسلبه ذلك, قال - يعني ابن تيمية - ولا يقع التفاضل بالغنى والفقر. بل بالتقوى، فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة. سمعته يقول ذلك, وتذاكروا هذه المسألة عند يحيى بن معاذ. فقال: لا يوزن غدا الفقر ولا الغنى، وإنما يوزن الصبر والشكر, وقال غيره: هذه المسألة محال من وجه آخر. وهو أن كلا من الغني والفقير لا بد له من صبر وشكر. فإن الإيمان نصفان: نصف صبر. ونصف شكر. بل قد يكون نصيب الغني وقسطه من الصبر أوفر. لأنه يصبر عن قدرة، فصبره أتم من صبر من يصبر عن عجز. ويكون شكر الفقير أتم؛ لأن الشكر هو استفراغ الوسع في طاعة الله، والفقير أعظم فراغا للشكر من الغني. فكلاهما لا تقوم قائمة إيمانه إلا على ساقي الصبر والشكر, نعم، الذي يحكي الناس من هذه المسألة: فرعا من الشكر، وفرعا من الصبر, وأخذوا في الترجيح بينهما. فجردوا غنيا منفقا متصدقا، باذلا ماله في وجوه القرب، شاكرا لله عليه. وفقيرا متفرغا لطاعة الله. ولأوراد العبادات من الطاعات، صابرا على فقره. فهل هو أكمل من ذلك الغني، أم الغني أكمل منه؟, فالصواب في مثل هذا: أن أكملهما أطوعهما. فإن تساوت طاعتهما تساوت درجاتهما. والله أعلم.اهـ 

وانظر كلام شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى على المسألة في مواضع من كتبه: الفرقان [ص52], مجموع الفتاوى [11 /21] و [11 /122]و [11 /195], ومختصر الفتاوى المصرية [ص572], ومما ألف فيها من الكتب و الرسائل:
1- تفضيل الفقير على الغني للقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء الحنبلي/ت 458 هـ, طبع ضمن مجلة دار عالم المخطوطات و النوادر تحقيق : د أسامة محمد / رابط تحميله
2- تفضيل الفقير الصابر على الغني الشاكر لأبي منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي الشافعي/ ت 429هـ, ذكره في كشف الظنون [1 /462] 
3- تفضيل الفقير الصابر على الغني الشاكر للعلامة محمد بن بير البركوي الحنفي/ت 981هـ, طبع في دار ابن حزم بيروت 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق