بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله رب العالمين , وصلى الله وسلم على نبينا محمد الأمين, وعلى آله الطيبين الطاهرين , وصحبه البررة الأكرمين, أما بعد: فهذه سلسلة مباركة سميتها: فاكهة المجالس وتحفة المؤانس , أعرض فيها ما انتقيته واخترته لكم من فوائد ونكت علمية , وطرائف وأخبار أديية , اقتطفتها من بطون الكتب والتواريخ والطبقات والتراجم ,وسأعلق على بعضها بما فتح الله تعالى علي من زيادة تعريفات , وتوضيح مبهمات , وتفسير مجملات , وذكر طبعات الكتب المصنفات, لتكمل الفائدة والاستفادة, وستكون تعليقاتي باللون الأزرق, مفتتحة بقولي: قلت , والله تعالى المسؤول أن يحلها في قلوبكم وأنظاركم محل القبول والرضى , وأن يعينني على إكمالها وإتمامها , وأن يبارك فيها وينميها , وينفع بها كثيرا من عباده المؤمنين, آمين / كتبه أبو يعلى البيضاوي المغربي غفر الله ولوالديه

الأحد، 21 أكتوبر 2012

57- نفوس ثمينة

حَدِيث: جَاءَ وَفد بزاخة من أَسد وغَطَفَان إِلَى أبي بكر يسْأَلُون الصُّلْح، فَخَيرهمْ بَين الْحَرْب المجلية وَالسّلم المخزية. فَقَالُوا: هَذِه المجلية قد عرفناها، فَمَا المخزية؟ ...وفيه : فَقَالَ عمر: نِعم مَا قلت، إِلَّا أَن قَتْلَانَا قُتِلت على أَمرِ الله، أجورها على الله، لَيْسَ لَهَا ديات. فتتابع الْقَوْم على مَا قَالَ عمر.


قال ابن الجوزي : قَول عمر: لَيْسَ لقتلانا ديات، فغاية فِي الْحسن؛ لِأَنَّهُ لم يرض أَن يكون عَرَضُ الدُّنْيَا عِوَضا لِنُفُوس الشُّهَدَاء الَّتِي ثُومِنَت بِالْجنَّةِ، فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالهمْ بِأَن لَهُم الْجنَّة} [التَّوْبَة: 111]

المصدر : [ كشف المشكل من حديث الصحيحين 1/ 46 ]

قلت - رحم الله والدي - : 
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم: حادي الأرواح 1 / 84: قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}, فجعل سبحانه ها هنا الجنة ثمنا لنفوس المؤمنين وأموالهم, بحيث إذا بذلوها فيه استحقوا الثمن, وعقد معهم هذا العقد, وأكده بأنواع من التأكيد: 
أحدها: إخبارهم سبحانه وتعالى بصيغة الخبر المؤكد بأداة : أن
الثاني: الأخبار بذلك بصيغة المرضى الذي قد وقع وثبت واستقر
الثالث: إضافة هذا العقد إلى نفسه سبحانه, وأنه هو الذي اشترى هذا المبيع
الرابع: أنه أخبر بأنه وعد بتسليم هذا الثمن وعدا لا يخلفه ولا يتركه
الخامس: أنه أتى بصيغة : على التي للوجوب , إعلاما لعباده بأن ذلك حق عليه أحقه هو على نفسه
السادس: أنه أكد ذلك بكونه حقا عليه
السابع: أنه أخبر عن محل هذا الوعد, وأنه في أفضل كتبه المنزلة من السماء, وهي التوراة والإنجيل والقرآن
الثامن: إعلامه لعباده بصيغة استفهام الإنكار, وأنه لا أحد أوفى بعهده منه سبحانه
التاسع: أنه سبحانه وتعالى أمرهم أن يستبشروا بهذا العقد, ويبشر به بعضهم بعضا بِشَارة من قد تم له العقد ولزم, بحيث لا يثبت فيه خيار, ولا يعرِض له ما يفسخه
العاشر: أنه أخبرهم إخبارا مؤكدا بأن ذلك البيع الذي بايعوه به هو الفوز العظيم, والبيع ههنا بمعنى المبيع الذي أخذوه بهذا الثمن وهو الجنة. اهـ
وقال أيضا رحمه الله في فصل آخر نفيس من زاد المعاد في هدي خير العباد 3 /65: فليتأمل العاقد مع ربه عقد هذا التبايع، ما أعظم خطره وأجله، فإن الله عز وجل هو المشتري، والثمن جنات النعيم والفوز برضاه، والتمتع برؤيته هناك, والذي جرى على يده هذا العقد أشرف رسله وأكرمهم عليه من الملائكة والبشر، وإن سلعةً هذا شأنُها لقد هُيِّئَت لأمرٍ عظيم وخطبٍ جسيم:

قد هيئوك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل


مهر المحبة والجنة بذل النفس والمال لمالكهما الذي اشتراهما من المؤمنين، فما للجبان المعرض المفلس وسوم هذه السلعة، بالله ما هزلت فيَسْتَامُها المفلسون، ولا كَسَدَت فيبيعها بالنسيئة المُعسِرون، لقد أقيمت للعرض في سوق من يَزِيد، فلم يرض ربُّها لها بثمن دونَ بذل النفوس، فتأخر البَطَّالون، وقام المحبون ينتظرون أيهم يصلح أن يكون نفسه الثمن، فدارت السلعة بينهم ووقعت في يد { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } [المائدة: 54]

لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يُعطى الناس بدعواهم لادعى الخَلِيُّ حُرقَة الشَّجِي، فتنوع المدعون في الشهود، فقيل: لا تثبت هذه الدعوى إلا ببينة { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } [آل عمران: 31] فتأخر الخلق كلهم، وثبت أتباع الرسول في أفعاله وأقواله وهديه وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البينة، وقيل: لا تقبل العدالة إلا بتزكية {يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} [المائدة: 54] فتأخر أكثر المدعين للمحبة، وقام المجاهدون فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم فسلموا ما وقع عليه العقد فإن {الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} [التوبة: 111], وعَقْدُ التبايع يوجب التسليم من الجانبين، فلما رأى التجار عظَمَة المُشترِي وقَدرَ الثمن وجلالةَ قدرِ من جرى عقد التبايع على يديهِ ومقدار الكتاب الذي أثبت فيه هذا العقد, عرفوا أن للسلعة قدرا وشأنا ليس لغيرها من السلع، فرأوا من الخسران البَيِّن والغُبن الفاحش أن يبيعوها بثمن بخس دراهم معدودة, تذهب لذتها وشهوتها وتبقى تبعتها وحسرتها، فإن فاعلَ ذلك مَعدودٌ في جملة السفهاء، فعقدوا مع المشتري بيعة الرضوان, رضى واختيارا من غير ثبوت خيار، وقالوا: والله لا نُقيلكَ ولا نَستقيلك، فلما تَمَّ العقدُ وسَلَّمُوا المبيعَ قيل لهم: قد صارت أنفسكم وأموالكم لنا، والآن فقد رددناها عليكم أوفرَ ما كانت وأضعاف أموالكم معها, {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} [آل عمران: 169] لم نبتع منكم نفوسكم وأموالكم طلبا للربح عليكم، بل ليظهر أثر الجود والكرم في قبول المعيب, والإعطاء عليه أجل الأثمان، ثم جمعنا لكم بين الثمن والمثمن.
تأمل قصة جابر بن عبد الله , وقد اشترى منه صلى الله عليه وسلم بعيره، ثم وفاه الثمن وزاده، ورد عليه البعير، وكان أبوه قد قتل مع النبي صلى الله عليه وسلم في وقعة أحد، فذكره بهذا الفعل حال أبيه مع الله، وأخبره أن الله أحياه، وكلمه كفاحا، وقال: يا عبدي تمن علي», 
فسبحان من عظم جوده وكرمه أن يحيط به علم الخلائق، فقد أعطى السلعة، وأعطى الثمن، ووفق لتكميل العقد، وقبل المبيع على عيبه، وأعاض عليه أجل الأثمان، واشترى عبده من نفسه بماله، وجمع له بين الثمن والمثمن، وأثنى عليه ومدحه بهذا العقد، وهو سبحانه الذي وفقه له وشاءه منه.انتهى 

تنبيه : الفائدة التي أوردها ابن القيم رحمه الله حول حديث جابر رضي الله عنه سبقه لاستنباطها الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي الأندلسي رحمه الله/ت 581هـ , صاحب الروض الأنف , قال ابن كثير في البداية والنهاية 4 /100: قال السهيلي: في هذا الحديث إشارة إلى ما كان أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم جابر بن عبد الله أن الله أحيا والده وكلمه فقال له: تَمَنَّ عَلَيَّ, وذلك أنه شهيد, وقد قال الله تعالى:(إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) وزادهم على ذلك في قوله: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة), ثم جمع لهم بين العوض والمعوض فرد عليهم أرواحهم التي اشتراها منهم, فقال:(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أموات بل أحياء عند ربهم يرزقون), والروح للإنسان بمنزلة المطية, كما قال عمر بن عبد العزيز, قال: فلذلك اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم جابر جمله وهو مطيته، فأعطاه ثمنه, ثم رده عليه وزاده مع ذلك, قال ففيه تحقيق لما كان أخبره به عن أبيه, قال ابن كثير : وهذا الذي سلكه السهيلي هاهنا إشارة غريبة وتخيل بديع والله سبحانه وتعالى أعلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق