بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله رب العالمين , وصلى الله وسلم على نبينا محمد الأمين, وعلى آله الطيبين الطاهرين , وصحبه البررة الأكرمين, أما بعد: فهذه سلسلة مباركة سميتها: فاكهة المجالس وتحفة المؤانس , أعرض فيها ما انتقيته واخترته لكم من فوائد ونكت علمية , وطرائف وأخبار أديية , اقتطفتها من بطون الكتب والتواريخ والطبقات والتراجم ,وسأعلق على بعضها بما فتح الله تعالى علي من زيادة تعريفات , وتوضيح مبهمات , وتفسير مجملات , وذكر طبعات الكتب المصنفات, لتكمل الفائدة والاستفادة, وستكون تعليقاتي باللون الأزرق, مفتتحة بقولي: قلت , والله تعالى المسؤول أن يحلها في قلوبكم وأنظاركم محل القبول والرضى , وأن يعينني على إكمالها وإتمامها , وأن يبارك فيها وينميها , وينفع بها كثيرا من عباده المؤمنين, آمين / كتبه أبو يعلى البيضاوي المغربي غفر الله ولوالديه

الثلاثاء، 18 ديسمبر 2012

162- أخوة قديمة


[ قال الربعي ] حدثنا محمد بن يونس، قال ثنا الأصمعي قال:
كان أعرابيان متواخيين بالبادية، فاستوطن أحدهما الريفَ، واختلَفَ إلى باب الحجاج بن يوسف فاستعمله على أصبهان، فسَمِع به أخوهُ الذي بالبادية، فضرب إليه فأقام ببابه حيناً لا يَصِل، ثم أَذِن له بالدخول، فأخذه الحاجب فمشى وجعل يوصيه, ويقول: سَلِّم على الأمير, فلم يلتفت إلى وصيته, وأنشأ يقول:
ولست مسلماً ما دمت حياً ... على زيدٍ بتسليم الأمير
فقال زيد: إذاً ما أبالي، فقال الأعرابي:
أتذكر إذ لحافك جلد شاةٍ ... وإذ نعلاك من جلد البعير
فقال: نعم، وإني لأذكر ذلك، فقال الأعرابي:
فسبحان الذي أعطاك ملكاً ... وعلمك الجلوسَ على السرير
قال: فأدناه وساءَلَه، وأمر له ببغلةٍ, فركبها وانطلق, فإذا هي نفرت, وألقته صريعاً, فأنشأ يقول:

أقول للبغل لما كاد يقتلني ... لا بارك الله في زَيْدٍ وما وهبا
إذ جاء بالبغل لما جئت سائله ... وأمسك الفضة البيضاء والذهبا

المصدر : [ منتقى من أخبار الأصمعي للربعي ص: 23 رقم 84 ] 

قلت - رحم الله والدي-:
سَمَّى الجاحظُ "الأعرابِيَّ" في كتابه: "البغال" [ص 50]: بـ: "البردخت" الشاعر, قال: وممن صرعته بغلته "البردخت" الشاعر، واسمه: عليّ بن خالد, وهو الذي كان هجا جرير بن عطيّة، فقال جرير: من هذا الهاجي؟, قالوا: "البردخت", قال: وأيّ شيء البردخت؟ قالوا: الفارغ, قال: فلست أوّل من صَيَّرَ لهذا شُغْلا, وكان "زيد الضبّيّ" هو الذي حمله على ذلك البغل الذي صرعه، فقال:

أقول للبغل لمّا كاد يقتلني ... لا بارك الله في زيد وما وهبا
أعطاني الحتف لمّا جئت سائله ... وأمسك الفضّة البيضاء والذّهبا
وقال الوطواط في "غرر الخصائص الواضحة"[1 / 289]: هذان البيتان ذكرهما الجاحظ في كتاب: "البيان والتبيين" لأعشى همدان , وأنشد قبلهما:

فلست مسلماً ما دمت حياً ... على زيد بتسليم الأمير 
قلت[ أبو يعلى ]: كذا قال, والأبيات في "التبيين" [3 / 277] غير معزوة لأحد

ووجدت الأبيات أيضا في قصة منسوبة لمعن بن زائدة الأمير الشجاع الجواد المشهور, ولم أجدها مع بحثي في كتاب متقدم فلتحرر, ونصها:
تذاكر جماعة فيما بينهم آثار معن, وأخبار حلمه وسعة كرمه، وغَالَوْا في ذلك كثيرا، فقام أعرابي من بينهم, وأخذ على نفسه أن يُغْضِبَهُ، فأنكروا عليه, ووعدوه مائة بعير إن هو فعل ذلك, فعمد الأعرابي إلى بعير فسلخه, وارتدى جلده جاعلا باطنه ظاهرا ، وظاهره باطنا ، ودخل على معن في مجلس الإمارة ولم يسلم، فلم يعره معن انتباهه فأنشأ الرجل (الأعرابي) يقول:
أتذكر إذ لحافك جلد شاة *** وإذ نعلاك من جلد البعير
قال معن: أذكره ولا أنساه، والحمد لله, فقال الأعرابي:

فسبحان الذي أعطاك ملكا *** وعلمك الج لوس على السرير.
قال معن: إن الله يعز من يشاء ويذل من يشاء, قال الأعرابي: 

فلست مسلما ما عشت دهرا *** على معن بتسليم الأمير.
فقال معن: السلام خير.. وليس في تركه ضير, فقال الأعرابي: 

سأرحل عن بلاد أنت فيها *** ولو جار الزمان على الفقير.
فقال معن: إن جاورتنا فمرحبا بالإقامة، وإن جاوزتنا فمصحوبا بالسلامة, فقال الأعرابي: 

فجد لي يا ابن ناقصة بمال *** فإني قد عزمت على المسير.
فقال معن: أعطوه ألف دينار, تخفف عنه مشاق الأسفار, فأخذها الأعرابي وقال: 

قليل ما أتيت به *** وإني لأطمع منك في المال الكثير.
فقال معن: أعطوه ألفا ثانيا كي يكون عنا راضيا, فقال الأعرابي: 

فقد أتاك الملك عفوا *** بلا عقل ولا رأي منير.
فقال معن: أعطوه ألفين آخرين, فتقدم الأعرابي إليه وقال:

سألت الله أني بقيك دهرا *** فما لك في البرية من نظير 
فمنك الجود والإفضال حقا *** وفيض يديك كالبحر الغزير
فقال معن: أعطيناه أربعة على هجونا فأعطوه أربعة على مدحنا, فقال الأعرابي: بأبي أيها الأمير ونفسي فأنت نسيج وحدك في الحلم، ونادرة دهرك في الجود، ولقد كنت في صفاتك بين مصدق ومكذب, فلما بلوتك صغر الخبر الخبر، وأذهب ضعفُ الشَكِّ قُوَّةَ اليقين، وما بعثني على ما فعلت إلا مائة بعير جعلت لي على إغضابك. فقال له الأمير: لا تثريب عليك، ووصله بمائتي بعير، نصفا للرهان, والنصف الآخر له، فانصرف الأعرابي داعيا له, شاكرا لهباته, معجبا بأناته.

وذكر الصابي في كتابه الممتع: "الهفوات النادرة" [ص15/ رقم84]: أنه دخل بعضهم إلى رئيس الرؤساء أبي القاسم بن المسلمة فقال له متعجباً من رئاسته التي عبقت به, وجلالته التي باتت له:
فسبحانَ الذي أعطاكَ ملكاً ... وعلَّمكَ الجلوسَ على السَّريرِ
فضحك رئيس الرؤساء منه، ولم يُعْلِمه بموضع غلطه، لعلمه بقلة معرفته, وبأنه لا يعلم أصله
واتفق أن اجتمعت به يوماً عند عميد الملك أبي نصر الكندري بعد قتل رئيس الرؤساء، فقال له: كيف أنشدت رئيس الرؤساء:

فسبحانَ الذي أعطاكَ ملكاً ... وعلَّمكَ الجلوسَ على السَّريرِ
أما تعلم أنه ثاني بيت، هو:

أتذكرُ غذ قميصك جلدُ شاةٍ ... وإذ نعلاكَ من جلد البعيرِ
فقال: والله يا مولاي ما أدري ما قلت، ولا أدري ما تقوله أنت الساعة لي، غير أنه مدحني به مادح فمدحت به رئيس الرؤساء, فضحك عميد الدولة حتى استلقى!

توضيح وبيان: ابن المسلمة: هو الصدر المعظم رئيس الرؤساء، أبو القاسم علي بن الحسن بن الشيخ أبي الفرج بن المسلمة, وزير الخليفة القائم بأمر الله العباسي, قال الذهبي: كان من خيار الوزراء العادلين, ت450هـ / ترجمته في سير الأعلام [18 /216]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق