بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله رب العالمين , وصلى الله وسلم على نبينا محمد الأمين, وعلى آله الطيبين الطاهرين , وصحبه البررة الأكرمين, أما بعد: فهذه سلسلة مباركة سميتها: فاكهة المجالس وتحفة المؤانس , أعرض فيها ما انتقيته واخترته لكم من فوائد ونكت علمية , وطرائف وأخبار أديية , اقتطفتها من بطون الكتب والتواريخ والطبقات والتراجم ,وسأعلق على بعضها بما فتح الله تعالى علي من زيادة تعريفات , وتوضيح مبهمات , وتفسير مجملات , وذكر طبعات الكتب المصنفات, لتكمل الفائدة والاستفادة, وستكون تعليقاتي باللون الأزرق, مفتتحة بقولي: قلت , والله تعالى المسؤول أن يحلها في قلوبكم وأنظاركم محل القبول والرضى , وأن يعينني على إكمالها وإتمامها , وأن يبارك فيها وينميها , وينفع بها كثيرا من عباده المؤمنين, آمين / كتبه أبو يعلى البيضاوي المغربي غفر الله ولوالديه

الأحد، 25 نوفمبر 2012

119- فطرة الإنسان وحيرة المتكلم الحيران

قال الحافظ أبو منصور بن الوليد البغدادي في رسالته التي كتبها إلى الفقيه محمود الزنجاني أن أبا محمد الحافظ الحراني, يعني: عبد القادر الرهاوي, أنا الحافظ أبو العلاء يعني: الهَمْداني, أنا أبو جعفر الحافظ: سمعت أبا المعالي الجويني، وقد سئل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }, وقال: كان الله ولا عرش، وجعل يتخبط في الكلام، فقلت: يا هذا, قد علمنا ما أشرت إليه، فهل عندك للضرورات من حيلة، فقال: ما تريد بهذا القول، وما تعني بهذه الإشارة، فقلت: ما قال عارف قط يا رباه، إلا قبل أن يتحرك لسانه، قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة، يقصد الفوق، فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة، فبينه لنا لنتخلص من الفوق، وبكيت, وبكى الخلق، فضرب بكمه على السرير، وصاح بالحيرة، وخرق ما كان عليه وانخلع وصارت قيامة في المسجد، وترك ولم يجبني إلا بـ: يا حبيبي, الحيرة، والدهشة الدهشة، وسمعت بعد ذلك أصحابه يقولون: سمعناه يقول: حيرني الهمداني .


المصدر : [ بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية 1/ 50]

قلت - رحم الله والدي-: 
القصة ذكرها أيضا ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية [2 / 275], والذهبي في العلو للعلي الغفار [582], والسبكي في طبقاته [5 /190], وكررها شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه, من ذلك في كتاب الاستقامة [1/ 167], ومجموع الفتاوى [3 /220], و[4/ 45], وعلق عليها بقوله: وذلك لأن نفس استوائه على العرش بعد أن خلق السموات والأرض في ستة أيام علم بالسمع الذي جاءت به الرسل, كما أخبر الله به في القرآن والتوراة, وأما كونه عاليا على مخلوقاته بائنا منهم: فهذا أمر معلوم بالفطرة الضرورية التي يشترك فيها جميع بني آدم, وكل من كان بالله أعرف وله أعبد ودعاؤه له أكثر وقلبه له أذكر كان علمه الضروري بذلك أقوى وأكمل, فالفطرة مكملة بالفطرة المنزلة, فإن الفطرة تعلم الأمر مجملا, والشريعة تفصله وتبينه, وتشهد بما لا تستقل الفطرة به, فهذا هذا, والله أعلم.اهـ
وفي [4 / 62] وقال: فهذا الشيخ تكلم بلسان جميع بني آدم, فأخبر أن العرش والعلم باستواء الله عليه إنما أخذ من جهة الشرع وخبر الكتاب والسنة, بخلاف الإقرار بعلو الله على الخلق من غير تعيين عرش ولا استواء, فإن هذا أمر فطري ضروري, نجده في قلوبنا نحن وجميع من يدعو الله تعالى, فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا.اهـ
وتكلم عليها بأبسط منه في بيان التلبيس مفسرا لجملها[1/ 50], قال رحمه الله : لما تكلم أبو المعالي على منبره في نفي علو الله على العرش، بأن الله كان قبل العرش، ولم يتجدد له بالعرش حال، قام إليه هذا الشيخ أبوجعفر الهمداني الحافظ، فقال: قد علمنا ما أشرت إليه، أي: دعنا من ذكر العرش، فإن العلم بذلك سمعي عقلي، ودعنا من معارضة ذلك بهذه الحجج القياسية، فهل عندك للضرورات من حيلة، أي: كيف تصنع بهذه الضرورة الموجودة في قلوبنا؟ ما قال عارف قط: يا رباه إلا قبل أن يتحرك لسانه، قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة، يقصد الفوق، فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة، فبينها نتخلص من الفوق والتحت، قال: فصاح «أبو المعالي» وضرب على السرير، وخرق ما كان عليه، ولم يجبه إلا بقوله: الحيرة الحيرة، الدهشة الدهشة، وكان يقول: حيرني الهمداني. وذلك لأن العلم باستواء الله على العرش بعد خلق السموات والأرض، إنما علم بالسمع، أمَّا العلم بعلو الله على العالم فهو معلوم بالفطر الضرورية وعند الاضطرار في الحاجات لا يقصد القلب إلا ما يعلم كما يعلم، فقال لأبي المعالي: ما تذكره من الحجج النظرية، لا تندفع به هذه الضرورة، التي هي ضرورة في القصد، المستلزم للضرورة في العلم، فعلم أبو المعالي أن هذه معارضة صحيحة، فقال: حيرني الهمداني، لأنه عارض ما ذكره من النظر، بما بينه من الضرورة، فصرخ حائرًا، لتعارض العلم الضروري والنظري، ولأن هذه الضرورة الموجودة في القلوب علمًا وقصدًا، ولا يمكن أحدٌ نزعها إلا بإحالة الفطر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟» 
وأما المناظر، فإذا قال لمنازعه هذا، إن ما علمه بالضرورة والبديهة، أو هذه المقدمة بديهية أو ضرورية عندي، لم يكن له أن يناظره ببيان ما ينافي الأمر الضروري، كما ذكره، فإن غايته في ذلك أن يستدل بمقدمات، يسندها إلى مقدمات ضرورية، فلو قدر أن البديهيات تتعارض، أو تعارضت عند شخص لم يكن دفعها هذا البديهي، لهذا البديهي، بأولى من العكس، فكيف إذا كان المعارض لها أمورًا نظرية، مستندة إلى بديهية؟ فلا ينقطع المناظر بمثل هذا، فلا ينتفع به الراد عليه، ولاينتفع به الناظر كما تقدم، ولكن إذا ادعى شخص في مقدمة أنها فطرية، فإما أن يعتقد كذبه أو يعتقد صدقه، فإن اعتقد أنه كاذب، عومل بما يعامل به مثله من الكذابين الجاحدين، على ما وردت به الشريعة، كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}, وعامة الكفار من هذا النوع، وإن اعتقد أنه صادق فيما يخبر به عن نفسه، ولكنه مخطئ، لاشتباه معنى عليه بمعنى آخر، أو اشتباه لفظ بلفظ، أو غير ذلك، أو لخلل وقع في إدراك حسِّه وعقله، أو لنوع هوى خالط اعتقاده، فهذا طريقه أن يبين له ما يزيل الاشتباه، حتى يتميز له أن الذي اضطر إليه من العلم ليس هو الذي نوزع فيه، بل هو غيره أو يصلح إدراكه بإزالة الهوى، أو الاعتقاد الفاسد، الذي جعله يظن ما ليس بضروري ضروريًّا، كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }, وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} .اهـ

قال العلامة الألباني رحمه الله في مختصر العلو [308]: إسناد هذه القصة صحيح مسلسل بالحفاظ، وأبو جعفر اسمه محمد بن أبي علي الحسن بن محمد الهمداني مات سنة 531هـ، وقد وصفه ابن تيمية في مجموعة الفتاوى[4/ 44] بـالشيخ العارف, ويبدو لي أن هذه الحيرة كانت قبل استقرار عقيدة أبي المعالي الجويني على المذهب السلفي، بل لعلها كانت المنطلق إلى هذا الاستقرار الذي أبان عنه فيما سبق من كلامه في الرسالة النظامية, وما أشبه حال بحال أبيه العلامة أبي محمد عبد الله بن يوسف الجويني، فقد كان برهة من الدهر متحيرا في هذه المسألة الأستواء وسواها من مسائل الصفات, بسبب تأثره بعلم الكلام الذي تلقاه عن شيوخه. ثم استقر أمره -والحمد لله- على العقيدة السلفية فيها، كما شرح ذلك هو نفسه أحسن الشرح في رسالته القيمة في "إثبات الاستواء والفوقية", وهي مطبوعة في المجلد الأول من "مجموعة الرسائل المنيرية" [ ص170-187], وإني لأستغرب كيف فات ذكر هذا الإمام على الحافظ الذهبي في جملة هؤلاء الأئمة الأعلام الذي قالوا بقول السلف في هذه المسألة الهامة. ولك جل من لا ينسى.اهـ

توضيح وبيان: أبو جعفر الهمذاني: محمد بن أبي علي الحسن بن محمد, الحافظ الصدوق, رحل وروى عن ابن النقور وأبي صالح المؤذن والفضل بن المحب وطبقتهم بخراسان والعراق والحجاز, قال ابن السمعاني: ما أعرف أن في عصره أحدا سمع أكثر منه, توفي في ذي القعدة / ترجمته في عبر الذهبي [4/85 / وفيات سنة 531هـ] وشذرات الذهب [4/97]

قلت [ أبو يعلى ]: رسالة إثبات الاستواء والفوقية ومسألة الحرف والصوت في القرآن المجيد وتنزيه الباري عن الحصر والتمثيل والكيفية تاليف أبي محمد عبد الله بن يوسف الجويني الشافعي والد إمام الحرمين/ت 438هـ, طبعت في دار المعرفة دمشق 1416هـ تحقيق عبد المنعم سعيد الطباع، ثم في دار طويق الرياض 1419 هـ تحقيق د. أحمد معاذ بن علون حقي, وفي مكتبة الثقافة الدينية مصر 1425 هـ تحقيق عدنان بن حمود أبو زيد, وطبعت في المكتب الإسلامي 1405 هـ بتحقيق زهير الشاويش باسم « النصيحة في صفات الرب جل وعلا » منسوبة للشيخ أحمد بن إبراهيم الواسطي ابن شيخ الحزامين/ت 711 هـ / تحميل الكتاب: طبعة طويق / طبعة الثقافة / مخطوطة الازهرية / ط المكتب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق