بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله رب العالمين , وصلى الله وسلم على نبينا محمد الأمين, وعلى آله الطيبين الطاهرين , وصحبه البررة الأكرمين, أما بعد: فهذه سلسلة مباركة سميتها: فاكهة المجالس وتحفة المؤانس , أعرض فيها ما انتقيته واخترته لكم من فوائد ونكت علمية , وطرائف وأخبار أديية , اقتطفتها من بطون الكتب والتواريخ والطبقات والتراجم ,وسأعلق على بعضها بما فتح الله تعالى علي من زيادة تعريفات , وتوضيح مبهمات , وتفسير مجملات , وذكر طبعات الكتب المصنفات, لتكمل الفائدة والاستفادة, وستكون تعليقاتي باللون الأزرق, مفتتحة بقولي: قلت , والله تعالى المسؤول أن يحلها في قلوبكم وأنظاركم محل القبول والرضى , وأن يعينني على إكمالها وإتمامها , وأن يبارك فيها وينميها , وينفع بها كثيرا من عباده المؤمنين, آمين / كتبه أبو يعلى البيضاوي المغربي غفر الله ولوالديه

الثلاثاء، 20 نوفمبر 2012

115- موعظة المجنون


قَالَ الشَّيْخ [ ابن الصلاح ] : أنبئت عَن أبي سعد السَّمْعَانِيّ قَالَ: أخبرنَا أَبُو حَفْص عمر بن مُحَمَّد الشَّاشِي، أخبرنَا أَبُو الْفضل مُحَمَّد بن أَحْمد التَّمِيمِي، أخبرنَا الْفَقِيه أَبُو نصر الحفصويي، أخبرنَا الْحَاكِم أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن الْحسن البحاث قَالَ: سَمِعت أَبَا بكر أَحْمد بن الْحسن قَالَ: سَمِعت أَبَا عبد الله الْأنْصَارِيّ قَالَ: سَمِعت عمر بن شبة يَقُول: سَمِعت الْأَصْمَعِي يَقُول: 
لما خرج الرشيد حَاجا، رأى يَوْم خُرُوجه من الْكُوفَة بهلولا الْمَجْنُون على الطَّرِيق يَهْذِي، فَقَالَ لَهُ الرّبيع: أمسِك، فقد أقبل أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَأمْسك حَتَّى حَاذَى الهودج، فَقَامَ على قَدَمَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ, سَمِعتُ أَيمن بن نابل يَقُول: سَمِعتُ قدامَة بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ يَقُول: رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على نَاقَته العضباء, لَيْسَ هُنَاكَ طرد, وَلَا رد، وَلَا إِلَيْك إِلَيْك, وَكَانَ خيرا مِنْك، وَإِن تواضعك فِي شرفك أحسن من تكبرك
فَقَالَ: عِظنا يَا بهْلُول، فَقَالَ: من آتَاهُ الله مَالا وجمالا وسلطانا، فواسى من مَاله، وعَفَّ فِي جماله، وَعدل فِي سُلْطَانه؛ كَانَ فِي ديوَان الله تَعَالَى من المقربين, قَالَ: قد أمرنَا لَك بجائزة، قَالَ: لَا حَاجَة لنا فِي الْجَائِزَة، قَالَ: إِن كَانَ عَلَيْك دَيْنٌ قَضَيناه عَنْك، قَالَ: إِن الدَّيْنَ لَا يُقْضَى بِالدَّيْنِ، فَاقْضِ دَيْنَ نَفسِك، قَالَ: فَإنَّا نُجري عَلَيْك مَجْرى، قَالَ: سُبْحَانَ الله، أَنا وَأَنت عَبْدَانِ لله عز وَجل، ترَاهُ يَذكُرُك وينساني, ثمَّ مَرَّ وَهُوَ يترنم، فَبعث خَلفه من يسمع مَا يترنم بِهِ، فَإِذا هُوَ يَقُول:

(دع الْحِرْص على الدُّنْيَا ... وَفِي الْعَيْش فَلَا تطمع)
(وَلَا تجمَع من المَالَ ... فَلَا تَدْرِي لمن تَجمع)
(وَأَمْرُ الرزقِ مَقسوم ... وَسُوءُ الظَّنِ لَا يَنفع)
(وَلَا تَدْرِي أَفِي أَرْضِك ... أم فِي غَيرهَا تُصرَع)
(فَقيرٌ مَن لَهُ حِرصٌ ... غَنِيٌّ كُلُّ مَن يَقنَع)

المصدر: [ الفقهاء الشافعية 1/ 133]

قلت - رحم الله والدي -:
بهلول رحمه الله معدود من عقلاء المجانين, وله مواقف أخرى مع الرشيد العباسي رحمه الله, ذكرها ابن حبيب النيسابوري في كتابه النفيس: عقلاء المجانين [ص68]: علي بن ربيعة الكندي قال: خرج الرشيد إلى الحج, فلما كان بظاهر الكوفة إذ بصر بهلولاً المجنون على قصبة, وخلفه الصبيان وهو يعدو, فقال: من هذا ؟، قالوا: بهلول المجنون، قال: كنت أشتهي أن أراه, فادعوه من غير ترويع، فقالوا له: أجب أمير المؤمنين، فعدا على قصبته، فقال الرشيد: السلام عليك يا بهلول، فقال: وعليك السلام يا أمير المؤمنين، قال: كُنتُ إليك بالأشواق، قال: لكني لم أشتق إليك، قال: عِظني يا بهلول، قال: و بِم أعظك ؟, هذهِ قُصُورهم, وهذه قُبُورهم، قال: زدني, فقد أحسنت، قال: يا أمير المؤمنين, من رزقه الله مالاً وجمالاً فعف في جماله, وواسى في ماله, كُتِب في ديوان الأبرار
فظن الرشيد أنه يريد شيئاً , فقال: قد أمرنا لك أن تقضي دينك، فقال: لا , يا أمير المؤمنين, لا يُقضَى الدَّيْنُ بِدَيْن, ارْدُد الحَقَّ على أهلِه, واقْضِ دَيْنَ نفسِك من نفسِك، قال: فإنا قد أَمَرنا أن يُجْرى عليك، فقال: يا أمير المؤمنين, أترى الله يُعطيك, ويَنسَاني؟ ,ثم ولى هارباً.
وروي بإسناد آخر, أنه قال للرشيد: يا أمير المؤمنين, فكيف لو أقامك الله بين يديه فسألك عن النقير, والفتيل, والقطمير، قال: فخنَقَته العَبرة, فقال الحاجب: حسبُك يا بهلول, قد أوجَعتَ أمير المؤمنين، فقال الرشيد: دَعه، فقال بهلول: إنما أَفسَدَهُ أنت, وأضرابُك، فقال الرشيد: أريد أن أَصِلَك بصلة, فقال بهلول: رُدها على من أخذت منه، فقال الرشيد: فحاجة، قال: أن لا تراني, ولا أراك، ثم قال: يا أمير المؤمنين حدثنا أيمن بن نائل عن قدامة ابن عبد الله الكلابي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة على ناقة له صهباء لا ضرب ولا طرد، ثم ولى بقصبته, وأنشأ يقول:

فعدّك قد ملأت الأرض طراً ... ودان لك العباد فكان ماذا
ألست تموت في قبر ويحوي ... تراثك بعد هذا ثم هذا
وقال[ص69]: بعض الكوفيين قال: حج الرشيد فذكر بهلولاً حين دخل الكوفة, فأمر بإحضاره, وقال: أَلبِسُوه سواداً, وضَعُوا على رأسه قلنسوة طويلة, وأوقِفُوه في مكان كذا, ففعلوا به ذلك, وقالوا: إذا جاء أمير المؤمنين فادع له، فلما حاذاه الرشيد رفع رأسه إليه وقال: يا أمير المؤمنين, أسأل الله أن يرزقك ويوسع عليك من فضله، فضحك الرشيد وقال: آمين، فلما جازه الرشيد دفعه صاحب الكوفة في قفاه, وقال: أهكذا تدعو لأمير المؤمنين, يا مجنون، قال بهلول: اسكت ويلك, يا مجنون, فما في الدنيا أحب إلى أمير المؤمنين من الدراهم، فبلغ ذلك الرشيد فضحك, وقال: والله ما كذب.

وعقلاء المجانين لهم في بعض أحوالهم وإفاقتهم كلمات بليغة وحكم تصدر منهم, وقد صنفوا في تراجمهم , فمن ذلك:
1- أخبار عقلاء المجانين لأبي بكر محمد بن أحمد بن مزيد بن محمود الخزاعى البوشنجى المعروف بابن أبى الأزهر النحوي /ت 325 هـ, ذكره في كشف الظنون, وهدية العارفين 2 /34
2- أخبار عقلاء المجانين لأبي سهل محمود بن عمر العكبري
3- عقلاء المجانين لأبي محمد العباس بن محمد الأنصاري, ذكرهما الروداني في صلة الخلف
4- عقلاء المجانين لأبي بكر محمد بن الحسن بن يعقوب العطار المعروف بابن المقسم البغدادي/ت 362 هـ, ذكره في هدية العارفين 2 /48
5- عقلاء المجانين لأبي الحسن أحمد بن محمد بن عمران المعروف بابن الجندي الشيعي, ذكره في هدية العارفين 1 /70
6- عقلاء المجانين لأبي محمد الحسن بن إسمعيل بن محمد الضّرّاب المصري/ت 392هـ, طبع دار البشائر دمشق 1424 هـ, تحقيق إبراهيم صالح / تحميل الكتاب
7- عقلاء المجانين لأبي القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري/ت 406هـ, طبع أولا في دار الكتب العلمية بدون تحقيق, ثم في دار النفائس بيروت تحقيق: د. عمر الاسعد/ تحميل الكتاب
قال في سبب تأليفه (ص 14): سألني بعض أصحابي، عوداً على مبدأ، أن أصنف كتاباً في عقلاء المجانين وأوصافهم وأخبارهم، وكنت أتغامس عنه إلى أن تمادى به السؤال، فلم أجد بداً من إسعافه بطلبته، وأجابته إلى بغيته، تحرياً لرضاه، وتوخياً لهواه، وكنت في حداثة سني سمعت كتباً في هذا الباب مثل كتاب الجاحظ وكتاب ابن أبي الدنيا وأحمد بن لقمان وأبي علي سهل بن علي البغدادي رحمهم الله فوقع كل كتاب منها في جزء أو ما يقارب جزءاً، تتبعتها وتيقنتها، وضممت إليها قرائنها، وعزوتها إلى أصحابها، وألفت هذا الكتاب على غير سمت تلك الكتب، وهو كتاب يكفي الناظر فيه الترداد وتصفح الكتب، وأرجو أني لم أسبق إلى مثله. اهـ
مما قال في (ص 8): المجنون عند الناس من يسمع ويسب ويرمي ويخرق الثوب، أو من يخالفهم في عاداتهم فيجيء بما ينكرون، ولذلك سمت الأمم الرسل مجانين, لأنهم شقوا عصاهم فنابذوهم, وأتوا بخلاف ما هم فيه.اهـ
وقال في (ص13): المجنون عند أهل الحقائق من ركن إلى الدنيا, وعمل لها, وطاب عيشاً, بذلك نطقت الأخبار

توضيح وبيان: قدامة بن عبد الله بن عمار بن معاوية الكلابي العامري، يكنى أبا عبد الله، أسلم قديما، سكن مكة ولم يهاجر، وشهد حجة الوداع، قال ابن عبد البر في الإستيعاب[2109]: روى عنه أيمن بن نابل ، وحميد بن كلاب فأما حديث أيمن عنه فإنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة يوم النحر على ناقة صهباء لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك. وأما حديث حميد بن كلاب فإنه قال عنه: إنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة وعليه حلة حبرة. لا أحفظ له غير هذين الحديثين.اهـ
وحديثه السابق: أخرجه أحمد في مسنده:[ 3 /412] ولفظه: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة، يوم النحر، على ناقة له صهباء، لا ضرب، ولا طرد، ولا إليك إليك, قال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق