بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله رب العالمين , وصلى الله وسلم على نبينا محمد الأمين, وعلى آله الطيبين الطاهرين , وصحبه البررة الأكرمين, أما بعد: فهذه سلسلة مباركة سميتها: فاكهة المجالس وتحفة المؤانس , أعرض فيها ما انتقيته واخترته لكم من فوائد ونكت علمية , وطرائف وأخبار أديية , اقتطفتها من بطون الكتب والتواريخ والطبقات والتراجم ,وسأعلق على بعضها بما فتح الله تعالى علي من زيادة تعريفات , وتوضيح مبهمات , وتفسير مجملات , وذكر طبعات الكتب المصنفات, لتكمل الفائدة والاستفادة, وستكون تعليقاتي باللون الأزرق, مفتتحة بقولي: قلت , والله تعالى المسؤول أن يحلها في قلوبكم وأنظاركم محل القبول والرضى , وأن يعينني على إكمالها وإتمامها , وأن يبارك فيها وينميها , وينفع بها كثيرا من عباده المؤمنين, آمين / كتبه أبو يعلى البيضاوي المغربي غفر الله ولوالديه

الأحد، 14 أكتوبر 2012

1- علو في الحياة والممات

الوزير ابن بقية محمد بن محمد بن بقية بالباء الموحدة والقاف على وزن: هدية

قتله عضد الدولة صلبه بحضرة البيمارستان العضدي ببغداد وذلك يوم الجمعة لست خلون من شوال سنة سبع وستين وثلاثمائة , ورثاه أبو الحسن محمد بن عمر بن يعقوب الأنباري أحد العدول ببغداد بقصيدة, 
لم أر في مصلوب أحسن منها, وأولها : [ الوافر ] 

(علو فِي الْحَيَاة وَفِي الْمَمَات ... بِحَق أَنْت إِحْدَى المعجزات)
(كَانَ النَّاس حولك حِين قَامُوا ... وُفُود نداك أَيَّام الصلات)
(كَأَنَّك قَائِم فيهم خَطِيبًا ... وَكلهمْ قيام للصَّلَاة)
(مددت يَديك نحوهم احتفاء ... كمدكها إِلَيْهِم بالهبات)
(وَلما ضَاقَ بطن الأَرْض عَن أَن ... يضم علاك من بعد الْمَمَات)
(أصاروا الجو قبرك واستنابوا ... عَن الأكفان ثوب السافيات)
(لعظمك فِي النُّفُوس تبيت ترعى ... بحفاظ وحراس ثِقَات)
(وتشعل عنْدك النيرَان لَيْلًا ... كَذَلِك كنت أَيَّام الْحَيَاة)
(ركبت مَطِيَّة من قبل زيد ... علاها فِي السنين الماضيات)
(وَلم أر قبل جذعك قطّ جذعاً ... تمكن من عنَاق المكرمات)
(أَسَأْت إِلَى النوائب فاستثارت ... فَأَنت قَتِيل ثار النائبات)
(وَكنت تجير من صرف اللَّيَالِي ... فَعَاد مطالباً لَك بالترات)
(وصير دهرك الْإِحْسَان فِيهِ ... إِلَيْنَا من عَظِيم السَّيِّئَات)
(وَكنت لمعشر سَعْدا فَلَمَّا ... مضيت تفَرقُوا بالمنحسات)
(غليل بَاطِن لَك فِي فُؤَادِي ... يُخَفف بالدموع الْجَارِيَات)
(وَلَو أَنِّي قدرت على قيام ... بفرضك والحقوق الْوَاجِبَات)
(مَلَأت الأَرْض من نظم القوافي ... ونحت بهَا خلاف النائحات 
(وَمَالك تربة فَأَقُول تسقى ... لِأَنَّك نصب هطل الهاطلات)
(عَلَيْك تَحِيَّة الرَّحْمَن تترايا ... برحمات غواد رائحات)

وكتبها الشاعر المذكور ورمى بها نسخا في شوارع بغداد فتداولها الأدباء إلى أن وصل خبرها إلى عضد الدولة وأنشدت بين يديه فتمنى أن يكون هو المصلوب دونه , وقال: علي بهذا الرجل, فطلب سنة كاملة, واتصل الخبر بالصاحب ابن عباد فكتب له إلى عضد الدولة بالأمان, فحضر إليه, فقال له الصاحب: أنشدنيها , فلما بلغ :

ولم أر قبل جذعك قط جذعا ... تمكن من عناق المكرمات

قام إليه وقبل فاه , وأنفذه إلى عضد الدولة, فقال له: ما حملك على رثاء عدوي ؟ , قال: حقوق وجبت , وإياد سلفت, فجاش الحزن في قلبي فرثيت,  
وكان بين يديه شموع تزهر فقال : هل يحضرك شيء في الشموع ؟ , فأنشد: [ المتقارب ] 


(كَانَ الشموع وَقد أظهرت ... من النَّار فِي كل رَأس سِنَانًا)
(أَصَابِع أعدائك الْخَائِفِينَ ... تضرع تطلب مِنْك الأمانا)


فخلع عليه وأعطاه فرسا وبدرة, ولم يزل ابن بقية مصلوبا إلى أن توفى عضد الدولة فأنزل ودفن , فقال ابن الأنباري المذكور يرثيه أيضا : [ البسيط ] 

(لم يلْحقُوا بك عاراً إِذْ صلبت بلَى ... باؤا بأثمك ثمَّ استرجعوا ندما)
(وأيقنوا أَنهم فِي فعلهم غلطوا ... وَأَنَّهُمْ نصبوا من سودد علما)
(فاسترجعوك وواروا مِنْك طود على ... بدفنه دفنُوا الأفضال والكرما)
(لَئِن بليت فَمَا يبلي نداك وَلَا ... ينسى وَكم هَالك ينسى إِذا عدما)
(تقاسم النَّاس حسن الذّكر فِيك كَمَا ... مَا زَالَ مَالك بَين النَّاس مقتسما)
المصدر: [ الوافي بالوفيات 1/ 99 ] 
قلت - رحم الله والدي - : 
ترجمة ابن بقية في وفيات الأعيان: 5 / 118 ، سير أعلام النبلاء 16 /220 ، الوافي بالوفيات: 1 /100 ، النجوم الزاهرة: 4 /130 ، شذرات الذهب: 3 /63 .

والقصيدة قال عنها الذهبي في السير: وهي قطعة بارعة في معناها, وقال أيضا عن خلعة الملك : أعطاه فرسا وعشرة آلاف درهم، ثم أهلكه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق